vendredi 23 mars 2012

عن الدكتور عصمت سيف الدولة في ذكرى رحيله بقلم عقيل البكوش

” لست أشك لحظة واحدة في أننا حين نحصد حصادنا ذات يوم لنلتمس بين سنابله وأعواده فلسفة عربية، سيكون الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه “أسس الاشتراكية العربية” بين الطلائع القوية التي أسهمت في تكوين الفلسفة العربية المعاصرة” الدكتور زكي نجيب محمود
فمن هو الدكتور عصمت سيف الدولة؟ ولد عصمت سيف الدولة عباس محمد إسماعيل جوده في قرية الهمامية، وهي قرية صغيرة بمركز البداري بمحافظة أسيوط في 20 أوت 1923، أكمل تعليمه الأساسي في قريته ثم انتقل إلى القاهرة ليكمل تعليمه الجامعي فحصل على الإجازة في الحقوق عام 1946 ثم على دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1951 ودبلوم الدراسات العليا في القانون العام سنة 1952 ثم انتقل إلى باريس فحصل من جامعتها على دبلوم الدراسات العليا في القانون عام 1955 والدكتوراه في القانون عام 1957
انتمى إلى الحزب الوطني، الحزب الذي تبنّى خيار الثورة والمقاومة المسلحة للاستعمار البريطاني وناضل في صفوفه وهو شاب واثقا أنّ خيار الثورة ومقاومة الاستعمار واسترداد الوطن بالقوة هو أقصر الطرق وأنجعها للوصول إلى شاطئ الحرية.

شارك في الكفاح المسلح وقاد كتيبة محمد فريد في العباسية، وقد كان يُعرف عن هذه الكتيبة أنها بقدر ما تحمل من سلاح بقدر ما تحمل من كتب.

شارك في الدفاع عن ثورة يوليو 1952 دون أن ينتمي إلى أي من أجهزتها، فقد احتفظ باستقلاليّته الفكريّة وبحرية التفكير والحركة إلى درجة أثارت انتباه البعض ممن يدّعون ولاءهم للثورة فلم يحفل بذلك وواصل دعوته الجماهير العربية لكي تلتقي بقائدها.

فُجع كما بقية الشعب العربي برحيل القائد جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وتجاوز تفكيره الفجيعة في المفقود إلى الفجيعة في المنشود أي مستقبل النضال العربي.

اتهمته الأجهزة الأمنية في بداية المرحلة الساداتية بالتخطيط لتشكيل تنظيم قومي يهدف إلى إسقاط الأنظمة العربية وبناء دولة الوحدة وأُودِع السجن في 15 فيفري 1972 ليخرج منه سنة 1973 ثم أُودِع السجن مرة ثانية سنة 1981 مع مجموعة كبيرة من المثقفين والسياسيين ليخرج منه إثر مقتل أنور السادات في عملية المنصة الشهيرة.

وباعتباره محاميا فقد تصدى للدفاع عن سجناء الرأي من طلبة وعمال وقادة وكوادر أحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية وحقوقية.

له مرافعات مشهورة، مرافعة عن المتهمين في انتفاضة 1977 التي نعتها أنور السادات ب : ” انتفاضة الحرامية” ضمنها كتابه :” دفاع عن الشعب” وكذلك مرافعة عن اليساريين نشرت تحت عنوان :” دفاع عن الوطن” ، وأيضا مرافعة ذائعة الصيت عن تنظيم ثورة مصر الناصرية بقيادة خالد جمال عبد الناصر والمجاهد البطل محمود نور الدين السيد، وكان هذا التنظيم قد اتهم بقتل صهاينة وأمريكيين في قلب القاهرة، وقد نشرت المرافعة تحت عنوان : ” دفاعا عن ثورة مصر العربية”. وقد أرفق مرافعته بوثيقة صهيونية تتضمن مخططا صهيونيا لمزيد تقسيم الوطن العربي وتفتيته ومنه مصر.

كان في شبابه مقاتلا في صفوف المقاومة المسلحة، فلما امتد به العمر وداهمته الكهولة امتشق سلاح الكتابة وأخذ يكتب ويكتب ويدخل معارك قومية وإقليمية يدافع فيها عن حرية الإنسان وحرية الأمة العربية، يدافع عن هويتها وعن قيمها وعن مستقبلها المنشود ويدعو الشعب العربي في كل مناسبة إلى الثورة على الظلم، على الاستبداد، على الحيف الاجتماعي، على القهر، على الإقليمية، على الصهيونية، على الامبريالية، من أجل الحرية، من أجل الوحدة، من أجل العدل، من أجل الكرامة، من أجل استرداد الحقوق.

كان يواجه الضخ الإعلامي الرهيب الذي يستهدف توجيه الرأي العام العربي واغتصاب عقله، وبدأ عملا منهجيا يكشف فيه نقاط قوة هذا المخطط ونقاط ضعفه من أجل أن تركز عليها القوى الثورية وتحولها من اغتصاب للعقول إلى تحصين لها ومدها بآليات المقاومة الفكرية والعلمية منعا للاختراق الذي يؤدي إلى الاحتراق ومن ثمة تهاوي جبهة المقاومة.

لقد كان طاقة جبّارة بكل المقاييس، عندما تقرأ كتاباته تحسّ أنّ ذاكرة الرجل تُخزن كل ما كُتِب عبر التاريخ وفي كل المجتمعات، فهو مطّلع على ما كتبه أساطين الفلسفة والقانون والاقتصاد السياسي والأدب والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، مطلع على خبايا النفوس، ينهل من علم النفس كأنه أحد علمائه.

وعندما تقرأ المنهج الذي أبدعه سنة 1965 ” جدل الإنسان” ثم تقرأ النتائج التي توصل إليها علم النفس العرفاني في السنوات الأخيرة تكتشف ألاّ تناقض بينهما وأنّ هذا العلم يثبت في كل نتيجة من نتائجه ما ذهب إليه مفكرنا وفيلسوفنا. ثم تستغرب أكثر عندما تعرف أنه أبدع ذلك المنهج في وقت كانت المدرسة السلوكية في علم النفس في أوج تألقها خاصة في ميدان التربية والتعليم، وهي مدرسة لا تحفل بما يجري داخل الأذهان من عمليات معالجة إنسانية للمعلومة وحل للمشكل وما يصاحب ذلك من استرجاع وتذكر وإدراك وتصور وعمليات تقييم وتعديل وانفعالات وعواطف وحاجات … فهذه المدرسة تهتم فقط بالسلوك الظاهر من خلال التركيز على براديغم “مثير – استجابة – تعزيز”.

كل هذا يجعلك تُدهش لسبقه العلمي دون أن يكون مختصا في علم النفس أو مهتما بقضاياه الأكاديمية، فتعرف أنه إلى جانب معرفته الموسوعية التي نهلت من معارف الشرق والغرب، القديم والحديث، أنه كان صاحب رأي ولم يكن مجرد ناقل للمعرفة أو مترجم لها، فقد بين أهمية العامل الاجتماعي في تملك المعرفة قبل أن تظهر أعمال فيقوتسكي.

وتقرأ تعريفه للأمة فتدرك أنه في تعريفه هذا قد تجاوز كل ما هو معروف ومتداول وأنه قد أبدع تعريفا غير مسبوق حيث أضاف عنصر الحضارة.

وتعلم أنه يمتلك فكرا نسقيا شيده تشييدا غاية في الدقة والوجاهة، كيف لا والتعريف في حد ذاته يحل مشكلة العلاقة بين العروبة والإسلام، فلا هو ينحاز إلى فكرة العروبة المنعزلة عن إسلامها ولا هو ينحاز إلى فكرة الإسلام المستغني عن العروبة. بل هو يقول عن فكرة العروبة المعادية للإسلام إنّها فكرة منافقة، ويقول عن فكرة الإسلام المستغني عن العروبة إنّها فكرة ظالمة وإنّ الفكرتين تنمان عن جهل بالعروبة والإسلام كليهما، وإنّهما تثيران عاصفة غبراء من الجدل العقيم تكاد تلهي الشعب العربي عن غاياته القويمة، فالعروبة والإسلام بالنسبة إليه سبيكة واحدة، وإنّه لا ينكر العروبة إلا من ينكر الثورة الحضارية للإسلام، وإنّه لا ينكر الثورة الحضارية للإسلام إلا منكر لوجود الأمة العربية ذاتها، غير واع بالسياق الزمني للأمة باعتبارها تالية لمراحل سبقتها هي مراحل القبائل والشعوب وسابقة لمراحل ستليها : تكوينات اجتماعيّة أكبر من الأمة.

ثم يبني على كل ذلك أن الوجود الموضوعي للأمة العربية الواحدة يقتضي وحدة مصيرها وأن مصير الأمة العربية الواحدة لا يكون إلا في ظل الدولة العربية الواحدة، وأن هذه الدولة، إذ ترفع الاعتداء الخارجي عن الشعب العربي فيسيطر على أرضه وثرواته ويتطور بما هو متاح له أن يتطور به، لابد أن تجسد حرية الإنسان فردا كان أو جماعة وأن الديمقراطية هي التجسيد السياسي لحرية المواطن العربي، وأن الاشتراكية هي التجسيد الاجتماعي لهذه الحرية.

ثم يؤكد أن لا خلاص من الاستعمار والاستبداد والتجزئة والتخلف إلا بمواجهة المعتدين والثورة عليهم في المكان والزمان المناسبين.

ولعلّك إذ تقرأ نظرية الثورة العربية تدرك الإضافة المهمة التي أضافها الدكتور عصمت سيف الدولة في نظرية الأسلوب بالذات، ذلك أنه على خلاف كل المفكرين القوميين من سابقيه أو ممن عاصروه أو حتى ممن جاؤوا بعده، لم يقف عند حدود التبشير بدولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية بل تجاوز ذلك إلى وضع معالم على الطريق إليها، فبين أن الوحدة لا يبنيها إلا الوحدويون وأن الثورة لا يصنعها إلاّ الثوار.

وقد بين بكل طريقة ممكنة أن الطريق الإقليمي إلى الوحدة طريق مضلل ومسدود، وأن طريق الثورة على صعوبته هو الطريق الوحيد الممكن علميا، ذلك أن أعداء الأمة العربية ذوي المصلحة في تخلفها وتجزئتها لن يهدونا الحرية والوحدة والاشتراكية على طبق من ذهب، وأن مهمة الثوريين العرب إفهامهم بالطريقة التي يفهمونها أننا لن نساوم على حريتنا ووحدة أمتنا، وهو هنا يذكرنا، دون أن يصرح، بما قاله الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر:” ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”.
ثم هو لا يفوته أن ينبهك أنه لا يستطيع أن يسلك هذا الطريق الصعب إلا الصادقون الشجعان الذين يختزنون في أنفسهم كل القيم العربية الإسلامية النبيلة، الذين هم على استعداد أن يقدموا أرواحهم فداء لأمتهم، لحريتها ووحدتها. وهو إذ ينبه إلى ذلك يشترط في كل ثوريّ وحدويّ مناضل من أجل بناء دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية صلابة الخلق كحجر زاوية تبنى فوقه وحدوية الغاية وتقدمية الاتجاه وقومية الفكر وتكون تلك الصلابة أساس كل البناء، لا كينونة له بدونها، أما وحدوية الغاية وتقدمية الاتجاه وقومية الفكر فهي الفانوس الذي ينير ما أعتم من الطريق.
هذا الفكر الممنهج علميا هو فكر مبني بناء متماسكا لا ينفع معه أن تختار أو تنتقي ما يناسبك وأن تستبعد ما لا يناسبك، فإمّا أن تقبله جملة وإمّا أن ترفضه جملة، فإن أنت استبعدت بعضه انتقض البناء كله، فأوله يؤدي إلى آخره وآخره يحيلك إلى أوله، فلا هو بالترف الفكري ولا هو تمارين ذهنية يُختبر فيها الذكاء والفهم والذاكرة. فهو ليس موجّها إلى المثقفين يتداولونه في الصالونات الثقافية وهم يحتسون القهوة ويدخنون السيجار. بل هو دليل عمل ثوري عميق يبدأ من الأخلاق ويمر بالفكر لينتهي بالالتزام النضالي في الميادين الممكنة أو التي يجب أن تكون، يبدأ من صلابة الخلق (الصدق والشجاعة والتواضع والتضحية والتفاني والإخلاص والأمانة والاحترام والأخذ بأيدي الآخرين وتفهم مشاكلهم وبذل الجهد لحلها). فالقومي التقدمي، في رأي فيلسوفنا، مدرسة في صلابة الخلق ومدرسة للوعي، والقومي التقدمي ليس مجترّا لمقولات فكرية يلوكها إرضاء لرغبة نفسية في التفوق وإثبات الذات، بل مناضل في الميادين بين صفوف شعبه، فهو النقيض التقدمي لنموذج الإنسان الذي شكله أسلوب الحياة الليبرالي وحددت ملامحه الهجينة سوق المنافسة الرأسمالية، ذلك النموذج الذي يكذب ويخون ويغدر ويقوم بكل ما من شأنه أن يعزّز فرديته ويجلب له الربح ومزيدا من الربح والنفع الشخصي، القومي التقدمي هو النقيض الذي يعطي بدون حساب إلا حساب ربح أمته وشعبه وتحقيق مبادئه في الواقع. وهو بهذا تجسيد للأخلاق التي بشرت بها الأديان وخاصة ديننا الإسلامي الحنيف.
هنا تلتقي عند القومي التقدمي الأخلاق كما تلقاها من الإسلام والأخلاق كما عرفها من العلم (جدل الإنسان) فيكون أغنى خلقا من الذين تأثروا بالدين وحده وأغنى خلقا من الذين اتبعوا العقل وحده.
وقد كان فيلسوفنا صلب الخلق بشهادة خصومه الذين رافع عنهم في المحاكم ورفض مهاجمتهم حتى لا يكون شريكا للمستبدين في الإجهاز عليهم وسكت عنهم رغم اختلافه معهم حتى يتجاوزوا محنتهم، ويمتلكون الأداة التي يردون من خلالها.
ومن آيات تواضع فيلسوفنا أنه لم يكتب سيرته الذاتية رغم إلحاح الملحين وآثر أن يكتب سيرة قريته في” مذكرات قرية” و” مشايخ جبل البداري” التزاما منه بأن الإنسان المفرد لا وجود له وأن الإطار الاجتماعي والتاريخي الذي ينتمي إليه هو حقيقته ومردّ أمره وجماع شخصيته، وقد تفهم بعد ذلك أنه موجود في تفاصيل كل شخصية من شخصيات روايته وأن ما يجمعه بهم وما يجمع هذه الشخصيات جميعا هو شخصية العربي من المحيط إلى الخليج بعيدا عن التشويهات التي نثرتها جرثومة الليبرالية على النسيج الخارجي على هذه الشخصية.
ولعل كل الذي ذكرنا هو الذي دعاه إلى أن ينادي في كل سطر مما كتبه إلى استبعاد الشخصنة والزعاماتية وعبادة الذوات واستبدال كل ذلك بزعامة الفكرة والمبدإ، أي الاحتكام إلى المبادئ والأفكار عوض الاحتكام إلى ذكاء الأشخاص أو حكمتهم أو مقدرتهم ولو كانوا قوميين تقدميين ولو كان منهم عصمت سيف الدولة نفسه، فإن الأسماء الكبيرة تؤدي إلى المهالك الكثيرة مادامت ذواتها هي المقياس لا المبدأ والفكرة والعلم وما دامت هي عنوان الوحدة الفكرية لا الوحدة الفكرية هي عنوانها أو هي التي تقودها.
ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إنّه لو كان يعيش بيننا وقرأ ما نكتب لاستشاط غضبا ولاتهمنا بأننا غير قوميين وأن عبادة الفرد قد سيطرت علينا فنسينا سلطان الفكرة، وأننا لم نفهم ما كتب أو فهمنا ولم نعمل به، فليس أبغض إلى قلبه من عبادة الأشخاص إذ هو يعتبر ذلك مرض الليبرالية البغيض، وقد علمنا أنه عند زيارته لتونس قد ضاق أشد الضيق بتعبير ” العصمتيين” الذي سمعه يتردد وصفا للقوميين الذين يتبنون نظرية الثورة العربية، فهو يريدهم أن ينتسبوا إلى أمتهم وشعبهم لا أن ينتسبوا إلى أي فرد فيها ولو كان هو نفسه.
غير أن ما يشفع لنا أننا نكتب ما نكتب بعد وفاته بِسِتَّ عَشْرةَ سنةً، فلسنا نكتب ما نكتب نفاقا أو تزلفا وإنما نكتبه لنعطي لمفكر عبقري الحق الذي يستحق، والذي غمطه فيه رواد فكره قبل خصومه.
كما نكتب ما نكتب لا ابتغاء تشييد صنم له وإنما لنذكّر بالطريق إلى الحرية والوحدة والاشتراكية في وقت تتكالب علينا الأمم، ويعلن أعداؤنا دون إخفاء وفي وضح النهار أنهم يريدون الإجهاز على هذه الأمة المثخنة بالجراح يبغون مزيد تفتيتها وتفكيكها، وتزداد الهجمة على العقل العربي استعارا ونشاهد اليوم بأمّ أعيننا ونسمع بآذاننا ونكاد لا نصدق انقياد العقول للآلة الاستعمارية الرهيبة، انقيادا غبيا كأنّ هذه العقول مبرمجة لتنفذ ما يريد أعداء الأمة وأعداء الحرية وأعداء الإنسان فنفتقد العقول الحصينة الثائرة، نفتقد الدكتور عصمت سيف الدولة الذي رحل عنا يوم 30 مارس 1996 وترك لنا خير الزاد نواجه به المستقبل. رحمه الله رحمة واسعة وجازاه عن أمتنا العربية كل الخير.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire