mardi 20 mars 2012

المحاسبة أولا وثانيا وثالثا..


رغم استعمالي في مقالاتي وبكثرة كلمات من نوع الثورة، واستحقاقات الثورة وأهداف الثورة، فإنني من القائلين بأن ما وقع في تونس ينحصر وإلى اليوم أساسا في تغيير وقع على رأس السلطة، وأن «الثورة» بدأت تخطو خطواتها الأولى بعد يوم 14 جانفي.
فقد بدأت الأحداث التي توجت بهروب بن علي بانتفاضة الجياع والفقراء والمهمشين، ولما احتدمت هذه الانتفاضة أخذ المشعل في مرحلة ثانية المدوّنون و«الفايسبوكر» الشبان في العاصمة والمدن الكبرى، فازدادت الانتفاضة تأججا، أما المرحلة الثالثة والأخيرة فقد تولاها عدد من المقربين من الرئيس بن علي والدائرين في فلكه، الذين «تآمروا» عليه لدفعه للتنحي عن الحكم طمعا في أخذ مكانه، وهو ما جنّب البلاد حمام دم.
فما أقدم عليه هؤلاء الأخيرون، لم يكن نابعا حسب اعتقادي من رغبة في حقن دماء الشعب، أو مراعاة للمصلحة العليا للوطن، أو من أي اعتبار سام من هذا القبيل، بل تصرفوا من منطلقات طموح شخصي وأناني حقير للاستيلاء على الحكم ومواصلة نهج الدكتاتورية المقيتة.
ففي اعتقادي الراسخ ـ الذي لا ينبني على فراغ طبعا ـ أن كل «الطبقة السياسية» التي عملت مع بن علي، على الأقل خلال العشرية الأخيرة من حكمه، لا تملك أي حس وطني ولا تحتكم الى الحد الأدنى من القيم والأخلاق، وما دفع شقا منها كان موجودا في مراكز حساسة في جانفي 2011 الى التخلي عن «سيدها» في آخر لحظة، إنما هو أولا كمّ الاذلال الكبير الذي تعرضت له من هذا السيد وليلاه وعائلتيهما، رغم خدماتها الجليلة ورغم انبطاحها ومشاركتها الفعالة في كل جرائم، وثانيا هو أن هذه الطبقة السياسية، وخصوصا الدائرة الضيقة المقرّبة، كانت على اطلاع بمحدودية الرجل ـ أي بن علي والعائلة الحاكمة في عمومها - المطلقة على كل الأصعدة: ثقافيا وفكريا وقيميا، وعلى الضعف الفادح لشخصيته الرجل، وانحطاطه الأخلاقي، وهو ما شجعها عندما سنحت الفرصة على الطمع في احتلال مكانه، فبما أن شخصا جاهلا عييّا، فاقدا للشخصية القوية المتماسكة ومنحطا أخلاقيا، قاد البلاد ثلاثة وعشرين عاما، فإن أخذ مكانه أمر ممكن لكل من هب ودب.
هذه هي اذن بالنسبة لي المراحل الثلاث التي أدت الى تغيير رأس السلطة، وأحوصلها في: انتفاضة الجهات المحرومة، فمعركة الأنترنات، فـ«مؤامرات» بعض الخدم المقربين.
وهذا التغيير فتح الباب أمام «ثورة محتملة»، قطعنا أولى خطواتها بنجاحنا في تنظيم انتخابات 23 أكتوبر الماضي. ورغم أهميتها فإن هذه الخطوة تبقى صغيرة جدا، وغير كافية لتحصيننا من العودة الى الوراء.
فتفكيك منظومات الفساد التي أقام عليها النظام البائد حكمه، والمحاربة الفعلية للثقافة الاجتماعية المنحطة، التي غرسها في العقول وأشاعها في المجتمع، والقائمة على اللامسؤولية والجشع والأنانية والتهوّر، والتعدي على القوانين والطمع في المال العام، كان حريا أن يكونا من أولويات الثورة وأوكد استحقاقاتها، الا ان هذين الهدفين يبدوان حاليا خارج دائرة الاهتمام، أمام المعارك «السياسوية» والحسابات الانتخابية الضيقة.
فـ«المسخ» الذي أحدثه النظام البائد في العقول والضمائر، مسّ للأسف الشديد حتى أشرس معارضيه.
فبينما أولويات التغيير الجذري تبدو واضحة جلية، وهي المحاسبة ثم المحاسبة.. ثم المحاسبة، بغرض تفكيك منظومات الفساد الواحدة تلو الأخرى، وكشف آليات عملها للعيان، حتى يمكن البناء من جديد على أسس سليمة، وأيضا لتكريس وغرس مبدإ «المسؤولية» في المجتمع والعقول، فإن المؤشرات السلبية على السير في اتجاه معاكس تواترت للأسف الشديد خلال المدة الأخيرة، ففزاعات ضرورة الابتعاد عن «التشفي» والانتقام و«مطاردة السحرة» وغيرها، ترتفع أكثر فأكثر هذه الأيام لتكوّن رداء من الغبار الكثيف، يضيّع المبدأين المذكورين ويميّعهما، والغريب في الأمر أن شقا من السلطة أصبح يتبنى هذا الموقف، وإن زيارة الوزير الأول شبه السرية لثكنة العوينة للاطلاع على ظروف إقامة عدد من رموز العهد البائد، إنما تندرج حسب رأيي في هذا الإطار.
فلا أحد يطالب بالتشفي والانتقام، ولا أحد يطالب بما يعرف بـ«مطاردة السحرة»، بل المطلوب هو بكل بساطة تطبيق القانون بصرامة وبحزم، فجزء لا يستهان به من أموال الشعب نُهب، والدستور وقع الاعتداء عليه مرارا وتكرارا لتأبيد حكم بن علي، والمظالم التي حدثت من افتكاك أرزاق الناس وتعذيبهم لا تحصى ولا تعد، وذلك ما كان ليتم لولا تواطؤ مباشر وفعّال من «خدم» النظام وزمرة من المسؤولين الاداريين والقضاة والصحافيين.
ان تحميل كل واحد منهم لمسؤوليته، لا يمكن أن يدخل البتة في إطار أي تشفّ أو انتقام، بل في إطار مغاير تماما، وهو كما ذكرنا آنفا تكريس مبدإ تحميل كل واحد مسؤولياته أخلاقيا وجزائيا، وهي الخطوة الأولى في طريق التفكيك الفعلي لمنظومات الفساد وبناء الثقافة الجديدة التي نصبو إليها.
جمال الدين بوريقة-جريدة الصباح

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire